منذ العام 2015 تتكرّر المَأساة نفسها، بسبب الإدارة الفاشلة لملفّ النفايات من جانب السُلطة السياسيّة، مع كل ما يُسبّبه هذا الأمر من كوارث(1)! فما أن ينسى اللبنانيّون مُشكلة النفايات لبعض الوقت، حتى تعود أكوام القُمامة لتتكدّس في شوارع مُدنهم وبلداتهم، ناهيك عن حرقها في بعض قراهم أو رميها في الوديان، ليُذكّرهم هذا المشهد المُقزّز بأنّ المشكلة ما زالت قائمة، وبأنّ ما إصطلح على تسميته بالحلول في السابق، لم يكن سوى "ترقيعات" من هنا وهناك، لتأجيل الكارثة! فما الذي حصل حتى عادت النفايات إلى التراكم في أكثر من منطقة، وماذا لو إنقضت مهلة الشهر التي أعطيت للحكومة من دون إيجاد حلّ، وأعيد إقفال مكبّ "كوستا برافا" من جديد؟.
أوّلاً: منذ إنتهاء الحرب اللبنانيّة، لم تتمّ مُعالجة مُشكلة النفايات سوى عن طريق الطمر العشوائي، بحيث صار "جبل" برج حمّود مدعاة للسُخرية ولإطلاق الفُكاهات! وفي العام 2015، وبعد صُدور قرار بفسخ عُقود شركتي "سوكلين" و"سوكومي"، تفاقمت الأزمة، لا سيّما بعد تضرّر أكثر من جهة كانت تستفيد ماليًا من عمليّات رفع النفايات وطمرها، بحيث عملت على عرقلة الحُلول البيئيّة المُناسبة. وتكرّرت المأساة مُجدّدًا عند إغلاق مطمر الناعمة، بعد طول تأجيل، في الوقت الذي فشلت السُلطة السياسيّة في تأمين التوافق على مطامر بديلة، وسقطت إقتراحات إنشاء مطامر في مناطق سرار في عكار، والمصنع في سلسلة جبال لبنان الشرقية، وفي المنطقة الجرديّة الفاصلة بين جنتا ويحفوفا شرقي بعلبك، وغيرها، وذلك بسبب مُزايدات سياسيّة وحساسيّات طائفيّة ومذهبيّة.
ثانيًا: تكرّر خلال الأيّام القليلة الماضية "السيناريو" نفسه، مع قرار إتحاد بلديّات الضاحية الجنوبيّة بمنع إستقبال نفايات المناطق باستثناء الضاحية في مطمر "كوستا برافا"، بحجّة الإخلال بالإتفاقات السابقة، وتحميله أكثر من قُدرته على الإستيعاب. إشارة إلى أنّ المطمر المذكور الذي جرى التوافق سابقًا على نقل 1000 طن من النفايات إليه يوميًا(2)، بات يدخله أكثر من 1700 طُنّ، ما جعله يقترب بسرعة كبيرة من قُدرته الإستيعابيّة القُصوى، فجاء قرار الإغلاق التحذيري، قبل أن تنجح الإتصالات الكثيفة التي تمّت أمس، في إعادة فتحه لمدّة شهر واحد، وذلك لإعطاء الحُكومة مهلة كافية لإيجاد البدائل. وعلى خطّ مواز، إنّ مطمر "برج حمّود" ليس أفضل حالًا، وهو شارف بدوره على بُلوغ طاقته الإستيعابيّة القُصوى–المُمدّدة أصلاً، في ظلّ إستمرار نقل نفايات قضاء كسروان وقضاء المتن وجزء من نفايات العاصمة إليه، أي نحو 1250 طنًا من النفايات يوميًا.
ثالثًا: الوُعود البرّاقة التي كان وزير البيئة فادي جريصاتي قد أطلقها عند تسلّمه لمنصبه الوزاري، مبنيّة على خريطة طريق تتضمّن سلسلة من الإجراءات المُترابطة(3). لكنّ هذه الخطة التي كان الوزير جريصاتي قد رفعها إلى مجلس الوزراء في شهر حزيران الماضي، تتطلّب مُوافقة المجلس، ما يعني أنّ الأمور مُجمّدة تمامًا على هذا المُستوى، وهي بمثابة أحلام يقظة، وذلك بناء على التجارب السابقة المليئة بالخلافات السياسيّة والطائفيّة والمناطقيّة والتي كانت تُؤدّي إلى إفشال الخطط السابقة! وفي كل الأحوال، إنّ الحلول المُستدامة والتي تُصنّف جذريّة، تتطلّب ما لا يقل عن أربع سنوات لتأسيس بنيتها التحتيّة–هذا في حال سلّمنا جدلاً أنّه جرى تأمين التوافق السياسي المَطلوب عليها! وبالتالي، خلال الفترة الفاصلة، لا بُد من إيجاد حُلول مُوقّتة وظرفيّة، بمعنى آخر لا بُد من إيجاد أماكن لطمر النفايات "بالتي هي أحسن".
رابعًا: خريطة طريق الحل القصير المدى، تقضي الاّ يقتصر رمي النفايات على مطمر "كوستا برافا" وحده، بل على توسيع مطمر "برج حمّود" مُجدّدًا–ولوّ بشكل جزئي ليستوعب المزيد من النفايات بدوره، علمًأ أنّ الإعتراضات السياسيّة والشعبيّة لهذا الطرح كبيرة! كما يتمّ العمل على إقناع القوى المعنيّة، بضرورة إستحداث مطمر لنفايات منطقتي الشوف وعاليه، مع توجّه لأن يقع الخيار على منطقة ضهر المغارة في إقليم الخروب، في حال الفشل في إعتماد منطقة الناعمة لهذا الغرض، وهنا أيضًا الأمور مُعقّدة والإعتراضات كثيرة. إلى ذلك، من المُرجّح أن يتمّ المُضيّ قُدمًا بمشروع تحويل منطقة الفوار في قضاء زغرتا إلى مطمر لنفايات أقضية زغرتا والكورة والمنية والضنية وبشرّي، على الرغم من الإعتراضات.ومن ضُمن القرارات المُتخذة الإسراع في تسديد دفعات جديدة من مُستحقّات البلديّات عن سنوات سابقة، وذلك لمُساعدتها في معالجة إرتدادات أزمة النفايات.
وفي كل الأحوال، وفي ظلّ الخلافات السياسيّة والطائفيّة والمناطقيّة، وفي ظلّ الإعتراضات الشعبيّة على إقامة مطامر جديدة، هل ستقوم الحُكومة بفرض الحلول المُوقّتة على الجميع بحزم، والأهمّ بشكل عادل بين مُختلف المناطق، أم أنّ الأمور تتجه للتأزّم من جديد خلال الأسابيع القليلة المُقبلة، ليعود معها مشهد تراكم النفايات المُقزّز إلى العديد من المناطق اللبنانيّة؟!.